تشهد الأسواق المالية الأمريكية حالة من الاضطراب أشبه بزلزال اقتصادي بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن سياسات رسوم جمركية جديدة ضد الصين وغيرها من الشركاء التجاريين.
هذه الرسوم الجمركية المفاجئة أشعلت حرباً تجارية عالمية وأثارت قلق المستثمرين بشأن استقرار الأسواق الأمريكية بشكل عام.
ونتيجة لذلك تصاعدت المخاوف من دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود اقتصادي محتمل، وتراجعت أسهم أمريكية كبرى على وقع التوترات حتى مؤشرات عملاقة مثل ناسداك و S&P 500 لم تسلم من التقلبات الحادة وسط ترقب لارتفاع معدلات التضخم وزيادة محتملة في معدلات البطالة.
في هذا المقال المبسّط والشامل سنستعرض كيف تهدد سياسات ترامب التجارية الجديدة استقرار الأسواق المالية الأمريكية، وتأثيرها المباشر على قرارات المستثمرين، بعيداً عن التعقيدات الفنية والتحليل الرقمي.
عودة العدواة التجارية وتصاعد الحرب التجارية
تبنّى ترامب منذ عودته إلى الساحة السياسية نهجاً تجارياً حمائياً عدوانياً، معتمداً على فرض رسوم جمركية صارمة كأداة للضغط على الشركاء التجاريين.
هذه السياسات ليست جديدة تماماً فقد شهدت ولايته الرئاسية السابقة توترات مشابهة، أبرزها مع الصين عندما تبادل البلدان فرض رسوم بمليارات الدولارات فيما عُرف بـ”الحرب التجارية”.
الجديد الآن هو اتساع نطاق الرسوم ليشمل حلفاء تقليديين أيضاً مثل كندا والمكسيك وأوروبا، وهو ما يُدخل العالم في دوامة من النزاعات التجارية غير المسبوقة منذ عقود.
لقد مزّق ترامب اتفاقيات تجارية قائمة وأعاد التفاوض على أخرى (مثل اتفاقية نافتا مع كندا والمكسيك) سعياً نحو صفقات أفضل من وجهة نظره.
ونتيجة لذلك ارتفع متوسط التعرفة الجمركية الأمريكية إلى مستويات تاريخية تُقارن بما كانت عليه في حقبة الكساد الكبير خلال ثلاثينيات القرن الماضي، في إشارة مثيرة للقلق إلى مدى ابتعاد السياسات الحالية عن نهج الأسواق الحرة الذي ساد في العقود الأخيرة.
هذا التحول الجذري في السياسة التجارية شكّل صدمة للنظام الاقتصادي العالمي الذي اعتاد على انسيابية التجارة، وأدى إلى حالة عدم يقين واسعة لدى المستثمرين والشركات حول العالم.
ركود اقتصادي يلوح في الأفق
أحد أكبر المخاوف الناتجة عن سياسات ترامب الجمركية هو احتمال دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود اقتصادي، فمع ارتفاع التكاليف على الشركات والمستهلكين نتيجة الرسوم يضعف الزخم الاقتصادي العام وقد يتباطأ النمو، وقد دقّت مؤسسات مالية كبرى ناقوس الخطر بخصوص تزايد احتمالات الركود: على سبيل المثال، رفعت مؤسسة جولدمان ساكس تقديراتها لاحتمال وقوع ركود في الولايات المتحدة من 35% إلى 45% بعد إعلان حزمة الرسوم الجديدة، في حين قدّر بنك جي بي مورغان ارتفاع خطر الركود الاقتصادي العالمي من 40% إلى 60% خلال نفس الفترة.
هذه الأرقام تعكس قلقاً حقيقياً لدى وول ستريت من أن تؤدي سياسات الحمائية المفرطة إلى انقلاب دورة الأعمال نحو الانكماش، باختصار بات شبح الركود الاقتصادي يلقي بظلاله على قرارات المستثمرين والشركات، ومع كل تغريدة أو تصريح جديد من البيت الأبيض حول الرسوم، أصبحت الأسواق تترقب بقلق أي إشارة قد تدل على اتجاه الاقتصاد نحو الانكماش.
هذا التخوف الكبير من الركود هو أحد أبرز الطرق التي تهدد بها سياسات ترامب الجديدة استقرار الاقتصاد والسوق المالية الأمريكية.
صدمة للأسهم الأمريكية وتقلبات حادة في وول ستريت

لم تتأخر الأسهم الأمريكية في إظهار رد فعل قوي تجاه تصاعد الحرب التجارية. فعلى أرض الواقع، شهدت البورصات عمليات بيع واسعة مع هرع المستثمرين لتقليص انكشافهم على الأسهم في القطاعات الأكثر تأثراً بالرسوم، والنتيجة كانت تقلبات حادة هزّت مؤشرات وول ستريت الرئيسية.
على سبيل المثال، تكبّد مؤشر S&P 500 خسائر فادحة، حيث تشير التقديرات إلى أنه فقد نحو 4 تريليونات دولار من قيمته السوقية مقارنة بأعلى مستوياته الأخيرة.
وفي إحدى الجلسات الحديثة هبط المؤشر القياسي S&P 500 بنسبة 2.7% في يوم واحد وهو أكبر تراجع يومي له منذ فترة بينما انخفض مؤشر ناسداك ذو التركيز التقني بحوالي 4% في نفس اليوم، مسجلًا أسوأ أداء يومي له منذ عام 2022.
ومع تواصل الضغوط، تراجع S&P 500 إجمالًا بحوالي 8.6% عن ذروته المسجلة في فبراير، مقترباً من نطاق “التصحيح” (انخفاض يفوق 10%)، فيما دخل ناسداك فعلياً مرحلة التصحيح بعد هبوطه أكثر من 10% عن أعلى مستوى له في ديسمبر.
ارتفاع التضخم وغلاء الأسعار
لا تقتصر تداعيات الرسوم الجمركية على الأسواق المالية فحسب، بل تمتد إلى الاقتصاد الحقيقي ومعيشة المواطنين عبر بوابة التضخم، فهذه الرسوم بمثابة ضرائب إضافية على السلع المستوردة إذ ترتفع كلفة المواد الخام والمنتجات النهائية القادمة من الخارج مما يدفع الشركات إما إلى تقليص هوامش ربحها أو تمرير الزيادة إلى المستهلك بشكل أسعار أعلى.
وقد حذر خبراء ماليون من أن السياسة التجارية الحالية قد تشعل شرارة ارتفاع في الأسعار، على سبيل المثال:
أشار جيمي دايمون الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان تشيس في رسالة سنوية للمستثمرين إلى أن الرسوم “من المرجح أن تزيد التضخم” في الاقتصاد الأمريكي.
وهذا التحذير له ما يبرره، فالتاريخ الاقتصادي يُظهر أن الإجراءات الحمائية المشابهة غالباً ما تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة (من إلكترونيات وملابس وحتى المواد الغذائية) مما يولّد ضغوطاً تضخمية قد تطال المستهلك العادي في حياته اليومية.
ضغوط على سوق العمل ومخاوف البطالة

الهدف المعلن لسياسات ترامب التجارية هو حماية الوظائف الأمريكية ودعم قطاع التصنيع المحلي، ولكن المفارقة أن هذه الرسوم الجمركية قد تأتي بنتائج عكسية على سوق العمل، أقله على المدى القصير إلى المتوسط.
فعندما ترتفع تكاليف الإنتاج بسبب الرسوم على المكونات المستوردة، تجد بعض الشركات نفسها مضطرة إما لرفع الأسعار (مما قد يقلل الطلب على منتجاتها) أو تقليص النفقات في بنود أخرى لتعويض الخسارة.
وغالباً ما تكون الوظائف ورواتب الموظفين من أولى البنود التي تتأثر في حالات الضغط المالي.
أظهرت دراسة حديثة أن سياسات ترامب التجارية كلفت الاقتصاد الأمريكي بالفعل نحو 245 ألف وظيفة مفقودة، نتيجة للتباطؤ والاستثمارات المؤجلة الناجمة عن عدم اليقين، وتنبّه الدراسة ذاتها إلى أنه ما لم يتم تخفيف حدة الرسوم عبر تسويات تجارية فقد تتسع دائرة فقدان الوظائف ويتعمق بطء النمو الاقتصادي.
قرارات المستثمرين تحت ضغط عدم اليقين
أمام هذه الصورة القاتمة نسبياً، يواجه المستثمرون والمتداولون تحدياً كبيراً في اتخاذ القرارات، نظراً الى حالة عدم اليقين التي خلقتها سياسات الرسوم الجمركية جعلت البيئة الاستثمارية محفوفة بالمخاطر وغير قابلة للتنبؤ بسهولة.
في الماضي اعتاد المستثمرون البحث عن ملاذات آمنة كالذهب أو سندات الخزانة الأمريكية في أوقات الاضطرابات، ولكن المثير للاهتمام أنه خلال هذه الأزمة شهد سوق السندات تحركات غير تقليدية.
فعادة عندما تسود المخاوف، تنخفض عوائد السندات (بسبب الإقبال على شرائها كملاذ آمن)، إلا أن ما حدث هو العكس: ارتفعت عوائد سندات الخزانة بشكل مفاجئ في بعض الأيام المضطربة، ما يُفسَّر على أنه تردد من بعض المستثمرين العالميين حيال ضخ أموالهم في الولايات المتحدة وسط هذه الفوضى.
ثقة المستثمرين الدوليين بالاقتصاد الأمريكي تلقت ضربة، حيث فضل البعض التريث أو توجيه أموالهم إلى أسواق أخرى أقل اضطراباً، وحتى المستثمرون المحليون في أمريكا لم يسلموا من هذا القلق، فعديد من مديري المحافظ وصناديق الاستثمار باتوا يتخذون مواقف دفاعية أكثر، عبر تقليل حصة الأسهم في محافظهم أو التحوط بمشتقات مالية خوفاً من الأسوأ
الخلاصة: استقرار الأسواق على المحك
في نهاية المطاف، لا يمكن التقليل من شأن التأثير الذي تمارسه سياسات ترامب الجديدة في ميدان الرسوم الجمركية على استقرار الأسواق المالية الأمريكية.
لقد رأينا كيف أحدثت هذه القرارات هزة أرضية حقيقية طالت جوانب عدة: من تزايد مخاطر الركود الاقتصادي، إلى اهتزاز ثقة المستثمرين وانخفاض الأسهم الأمريكية والمؤشرات الرئيسية، مروراً بارتفاع محتمل في التضخم وضغوط على سوق العمل تنذر بزيادة البطالة.
هذا المزيج من التحديات يضع الاقتصاد الأمريكي أمام مفترق طرق حرج، ويدفع المتداولين للتعامل بحذر غير معتاد مع تطورات المشهد الاقتصادي والسياسي،في ظل هذا الواقع المتقلب تحتاج إلى فريق احترافي يساعدك على اتخاذ قرارات مدروسة…
انضم اليوم إلى شركة بروفيت وابدأ بالحصول على:
تحليلات دقيقة لحظة بلحظة – توصيات يومية من خبراء السوق – استشارات شخصية لإدارة محفظتك – دورات تعليمية لمواكبة التغيرات العالمية